المزمور الرابع والثلاثون
شكر من أجل النجاة
ما حملته رسالة بطرس الرسول الأولى ( ص 2 ، 3 ) وغيرها من الرسائل الأخرى من اقتباسات زاخرة من هذا المزمور ، وما ظهر من أصدائه عليها ، لهو دليل قوى على ما تدين به كل الأجيال لهذا المزمور .
كتب داود النبى هذا المزمور عندما غير عقله أمام أبيمالك ، متظاهرا بالجنون ، فطرده الملك .
لقد ذهب مرتين إلى أرض الفلسطينيين [ 1 صم 21 : 4 – 15 ] ، [ 1 صم 27 ، 29 ] .
لقد أخفق اخفاقا ذريعا ولم يسلك بالإيمان . لا يمكننا أن نبرر صنيعه هذا أمام الملك ، متظاهرا بالجنون لخداعه . فالحق والإخلاص والصراحة هى أمور حتمية يلتزم بها المؤمن فى كل الظروف لا مناص منها ، فلا يليق برجل الله أن يلجأ إلى طريق خداع يحمل ضعف إيمان .
إن كان داود النبى قد ضعف فالرب لم يخذله ، وإنما برحمته خلصه . لهذا امتلأت نفس داود بالتسبيح ، مقدما الشكر لله على الدوام من أجل معونة نعمته ورأفته المتحننة .
" أبارك الرب فى كل وقت ،
وفى كل حين تسبحته فى فمى " [ 1 ] .
تعتبر الآيات 1 – 3 تعليقا رائعا على النصيحة المقدمة لنا فى العهد الجديد :
" افرحوا فى الرب كل حين ، وأقول أيضا افرحوا " فى 4 : 4 . فالروحانية الحقة تستعلن خلال الفرح الداخلى الدائم والذى يعبر عنه بالتسبيح الدائم حتى فى أحلك لحظات الظلمة .
عرف المرتل أنه ليس من عمل على الأرض ولا فى السماء أشرف ولا أعظم من التسبيح ، إنه عمل ملائكى !
حينما نسقط فى ضيق يلزمنا أن نتذكر معاملات الله معنا فى الماضى ، ومراحمه غير المنقطعة ، فتتحول قلوبنا إلى الفرح والتسبيح ، إذ تترجى بثقة ويقين مراحم الله الجديدة .
" بالرب تمتدح ( تفتخر ) نفسى ، ليسمع الودعاء ويفرحون .
عظموا الرب معى ، وارفعوا بنا اسمه جميعا " [ 2 ، 3 ] .
الأفتخار أمر طبيعى فى حياة الإنسان ، إن أساء استخدامه صار فريسى الفكر ، أما إن افتخر بضعفاته كما فعل الرسول بولس فينال نعمة الله وقوته ، عندئذ يمتدح الله فى شخصه وسماته ومواعيده وعهده وأعماله العجيبة ...
بالأتضاع والوداعة يدرك الإنسان أن ما ناله من صلاح ليس عن استحقاق ، إنما هو هبة إلهية مجانية ، فيشكر الله على مراحمه التى لا يدركها غير المؤمنين ، ويفرح ويمتلىء رجاء لينال كمال المجد الأبدى .
" طلبت إلى الرب فاستجاب لى ،
ومن جميع مساكنى ( مخاوفى ) نجانى " [ 4 ] .
لقد سمح الله لداود أن يتعرض لمتاعب كى يطلب إلى الله مصليا ، وأحيانا كان يؤجل الأستجابة حتى تتعاظم حاجته إليه فيصرخ قلب داود ، ويعطيه الله دليلا على استجابته ويخلصه .
" تقدموا إليه واستنيروا ،
ووجوهكم لا تخزى " [ 4 ] .
لعل ما هو أعظم من النجاة من الضيق هو التمتع بإشراقات الله على نفسه وسط آلامها .
وسط الآلام نتطلع إلى المصلوب لنشاركه صليبه وننعم بمجد قيامته فى داخلنا .
الله يحوطنا بملائكته :
" يعسكر ملاك الرب حول كل خائفيه وينجيهم " [ 7 ] .
ترسل الملائكة لخدمة معينة لحساب خائفى الرب الذين يرثون الخلاص ، إن كان أعداؤنا كثيرين جدا وأقوياء لكن هؤلاء الرسل السمائيين هم أكثر فى العدد وأعظم فى القدرة . توجد جماعة بلا حصر متفوقون فى القوة يسندوننا .
اختبار عذوبة الله :
" ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب ! " [ 8 ] .
استخدمت هذه العبارة فى عب 6 : 5 ، 1 بط 2 : 3 . لتصف الجرأة فى الإيمان ، ولتحث على الدخول إلى الخبرة العملية .
+ كل صلاح نملكه هو تذوق للرب ...
يصير الناس كاملين عندما يدركون أنهم غير كاملين .
الله ملجأ سائليه :
الأشبال بما لها من قوة طبيعية قد تجوع ، أما رجال الله المحبيم له ، الذين يخافونه كأب لئلا يجرحوا مشاعر أبوته الحانية بخطاياهم ، لا يعتازون إلى شىء .
" اخشوا الرب يا جميع قديسيه ،
فإن الذين يخشونه لا يعوزون شيئا .
الأغنياء ( الأشبال ) افتقروا وجاعوا .
إن الذين يبتغون الرب فما يعدمون كل خير " [ 9 ، 10 ] .
هلم أيها الأبناء واسمعونى :
امتاز داود النبى الملك بحبه لشعبه وحنوه عليهم ، يتحدث معهم بكونه خاصته وبنيه .
" هلم أيها الأبناء واسمعونى ،
لأعلمكن مخافة الرب " [ 11 ] .
هكذا إذ يتهلل قلب داود النبى ، وينفتح لسانه بالتهليل من أجل خلاص الرب العجيب ، يشتاق أن يتعلم كل الشعب مخافة الرب ليختبر عذوبة الخلاص .
الجانب السلبى :
" اكفف لسانك عن الشر ،
وشفتاك لا تنطقا بالغش .
حد عن الشر " [ 13 ، 14 ] .
إذ تتقبل فيك كلمة الله يحفظ لسانك عن الشر وشفتاك عن النطق بالغش ، إذ لا شركة بين الخير الأعظم والشر ، وبين الحق والغش .
مسيحنا هو حافظ فمنا وهو باب شفاهنا الحصين ، به تتقدس كلماتنا ، فلا تخرج كلمة شريرة غاشة .
الجانب الإيجابى :
" واصنع الخير " [ 14 ] .
من كلمات القديس أغسطينوس :
+ لا يكفى أن تدير ظهرك للشر فحسب ، وإنما يلزم أن تصنع الخير أيضا .
لا يكفى ألا تعرى إنسانا فحسب ، وإنما يجب أن تكسو العريان .
السعى وراء السلام :
" اطلبوا السلام واتبعها " [ 14 ]
لم يقف المرتل عند الجانب الإيجابى إنما طالب بالجهاد فى طلب السلام ، أى طلب السيد المسيح والجد فى إثره .
الأمان الإلهى :
" فإن عينى الرب على الصديقين " [ 15 ]
يشبه القديس يوحنا الذهبى الفم الله بمربية أو أم تدرب طفلها على المشى ، تمسك بيديه لتتركهما إلى حين ، يسقط ويبكى فى عتاب ، لكن عينيها تتطلعان إليه وأذنيها تستجيبان لصراخه .
هكذا نحن فى حاجة إلى يدى الله المترفقتين ، وفى حاجة أن يبدو كمن يتركنا إلى حين لنصرخ إليه ..
" فإن أذنيه مصغيتان إلى طلبهم " [ 15 ]
صلاة المتواضع تبلغ كما من الفم إلى أذن الله .
" أما وجه الرب فعلى الذين يعملون الشر ،
ليمح من على الأرض ذكرهم " [ 16 ] .
الله الصالح يتطلع بعينيه نحو الصديقين ويميل بأذنيه إلى طلبتهم ، معلنا اهتمامه الشخصى بهم وشوقه نحو إستجابة طلباتهم ... نظرته إليهم وإنصاته لهم يبعثان فيهم الرجاء والحياة . أما صانعوا الشر فيقاومهم وجه الرب .
استجابته لصرخات الصديقين :
" الصديقون صرخوا والرب استجاب لهم ،
ومن جميع شدائدهم نجاهم ،
قريب هو الرب من المنسحقى القلب ،
والمتواضعين بالروح يخلصهم " [ 17 ، 18 ] .
القديس أغسطينوس :
+ " قريب هو الرب ... " يتجه الله نحونا ، حتى أنه يستجيب لنا قبلما ندعوه . أذناه مفتوحان لنا ، يأخذ صلواتنا مأخذ الجد .
+ الله عال ، ويليق بالمسيحى أن يكون متواضعا إن أراد أن يكون الله المتعالى قريبا منه . عليه من جانبه أن يتضع وينسحق .
اتضعوا فينزل إليكم .
يقدم لنا المرتل وعود إلهية بالتدخل لخلاص أولاد الله ، إذ يقول :
" كثيرة هى أحزان الصديقين ومن جميعها ينجيهم الرب " [ 19 ] .
الأبرار ينعمون بالسلام الأبدى بعد كثرة الشدائد ، ولا يقاسون بعد من أى شر .
" يحفظ الرب جميع عظامهم ، وواحدة منها لا تنكسر " [ 20 ] .
تنطبق هذه العبارة على السيد المسيح حرفيا كما أوضح العهد الجديد ( يو 19 : 31 – 37 ) ، وتنطبق بمفهومها الرمزى على داود النبى وجميع المؤمنين خائفى الرب حيث لا تنكسر عظمة واحدة من هيكل إيمانهم الحى .
يختم المرتل المزمور بروح التهليل وتمجيد الله مخلص خائفيه ، قائلا :
" الرب ينقذ نفس عبيده ،
ولا يندم جميع المتكلين عليه ! "
إنه منقذنا من كل مرارة ، خاصة مرارة الخطية المهلكة للنفس !
+ + +