المزمور الثانى والثلاثون
الفرح بالغفران
مزمور الصراحة والأعتراف بالخطية
هو مزمور التوبة الثانى ، يدعوه بعض الدارسين مع المزامير 51 ، 130 ، 145 مزامير بولسية [ تحمل فكرا يشابه فكر الرسول بولس ] ، إذ تتحدث بقوة عن عمل الله الخلاصى فى حياة الخاطىء التائب .
إنه جوهرة الجمال الروحى وتدبير الله الخلاصى . بينما تحتشد الدموع والعبرات والأسى فى المزمور السادس ، أول مزامير التوبة ، نشعر هنا بمدى الراحة التى يتمتع بها الخاطىء الذى لا يكتم خطيته ، بل يقول : " اعترف للرب بإثمى " [ 5 ] .
فالخطية الرئيسية هنا ليست العصيان وإنما بالحرى الرياء . فمفتاح المزمور هو كلمة " أكتم " أو " لا أكتم " [ 5 ] . فعندما رفض المرتل أن يكشف عن إثمه يقول : " أنا سكت فبليت عظامى ، من صراخى طول النهار " [ 3 ] . وإذ كشف له الله عن الخطية غفرت ، وطلب المرتل ألا يكون " فى فمه غش " [ 2 ] ، سائلا أن تحيط به رحمةالله [ 12 ] أو حب الله الذى يقيم عهدا مع شعبه ويود خلاصهم .
صلى داود النبى المزمور الحادى والخمسين بعدما أشار إليه ناثان بأصبعه ، قائلا : " أنت هو الرجل " 2 صم 12 : 7 ، فكان المزمور اعترافا من داود بخطيته ، ثم ترنم بهذا المزمور إذ اختبر بركات غفران خطيته الموجهة ضد الله نفسه وضد بتشبع وأوريا الحثى . وكأن هذا المزمور يأتى بعد المزمور 51 بحسب الترتيب التاريخى .
قيل إن هذا المزمور هو المزمور المفضل جدا لدى القديس أغسطينوس ، اعتاد أن يصليه بقلب حزين وعينين باكيتين ، عندما اقترب القديس من الرحيل من هذا العالم طلب أن يكتب هذا المزمور – مع بقية مزامير التوبة – بحروف كبيرة على لافتة ضخمة ، وتوضع مقابل سريره ، وكان يردد كلمات هذه المزامير بقلب منسحق مع أنفاسه الأخيرة .
الغفران الإلهى
" طوباهم الذين تركت لهم آثامهم
والذين سترت خطاياهم
طوبى للرجل الذى لم يحسب له الرب خطيئة ( معصية )
ولا فى فمه غش " [ 1 ، 2 ] .
المزمور الأول يكشف عن تطويب الإنسان الذى يرتبط بكلمة الله فى أفكاره وفى قلبه وفى سلوكه العملى ، أما هنا فى مزمور أشير ( اسم أحد الأسباط بمعنى المطوب أو السعيد ) فنقرأ عن التطويب الممنوح لمن ينال بالتوبة غفران خطاياه ، وتستر نعمة الله آثامه . إنه مزمور كل إنسان انحرف فى ضعفه وضل الطريق ، ثم سحبته نعمة الله ، ليكون صادقا مع نفسه ومع الله ، يعترف بخطاياه .
المزمور الأول مزمور حافظ الناموس بالروح والحق ، ومزمور أشير مزمور كاسر الناموس الذى تفاضلت عليه نعمة الله لينال بر المسيح الكامل .
المزمور الأول يتحدث عن السيد المسيح الذى بلا خطية واهب التطويب ، ومزمور أشير هو مزمور المسيحى الذى ينعم بالتطويب خلال اتحاده بمسيحه .
الإثم : تعنى " تجاوز حد معين " أو " فعل أمر ممنوع " . تشير ضمنا إلى التمرد ضد رئيس شرعى أو ضد ضمير الإنسان .
الخطية : تعنى الخطأ فى إصابة هدف ما أو علامة معينة ، أو الأبتعاد عن سبل الله كسهم طائش يخطىء الهدف .
المعصية : تعنى الأنحراف عن مسار محدد أو عن وضع معين . تشير إلى اعوجاج كما يحدث لشجرة معوجة بسبب ريح عاصف أو نتوء حدث فى الأرض بسبب زلزال ، من ثم فهى تعنى حدوث شىء ضد النمو الطبيعى .
الغش : تدل الكلمة على الزيف والخداع والمكر ...الخ .
علاج هذه الشرور الأربعة :
أولا : المغفرة : الكلمة العبرية الأصلية تعنى " رفع " – جاء السيد المسيح ليدفع حياته على الصليب ثمنا ليحمل ثقل خطايانا ، محررا إيانا منها . جاء ليدعونا نحن المتعبين والثقيلى الأحمال إلى التمتع براحته ( مت 11 : 28 ) .
ثانيا : الستر : " والذين سترت خطاياهم " . لا يعنى الستر هنا تجاهل الخطية ، وإنما تعنى أننا إذ لبسنا بر المسيح بالصليب ، صار بره عوض خزى خطايانا .
ثالثا : البراءة أو التبرئة من الإتهام :
" لم يحسب له الرب خطية ، ولا فى فمه غش " [ 2 ]
لم يقل أنه بلا خطية ، فإنه لم يوجد إنسان هكذا بعد السقوط إلا كلمة الله المتجسد ، الذى من أجلنا صار إنسانا وهو العلى . فى الضعف نخطىء ، لكن بالإيمان العامل بالمحبة لا تحسب علينا الخطية ، إذ يسدد هو الثمن .
الخاطىء الذى يتمتع بغفران خطاياه والستر عليها بدم المخلص ويحسب كبرىء لا يحمل فى قلبه ولا فى فكره ولا فى فمه غشا .
يقبل الشركة مع المسيح " الحق " ، فيكون صادقا مع نفسه فى توبته واعترافاته كما فى إيمانه وثقته بالله وفى عبادته وتسابيحه وتشكراته ، أمينا فى علاقته مع الله يصارحه بكل ما يجتاز حياته من ضعفات أو من خبرة القوة الروحية ، من حب أو مخافة له ، من رغبة فى خدمته وحنين عميق نحو الأنطلاق ليكون معه ، مخلصا مع الغير ، لا يعرف الرياء ، ولا الغش ، يحب إخوته لكن ليس على حساب الحق ، يترفق بهم لكن فى حزم .
فى الكتاب المقدس تشير كلمة " غش " دائما إلى الخطية ، لأنها مخادعة ، وباطلة وكاذبة ، فلا أمانة فى الخطأ . إن كان المتعدى نزيها فى نظر الناس ، لكنه يخدع نفسه ، ويسلب الله ، ويكذب على القدير ، ويحتال على خالقه ، بمحاولته الوثب لأعتلاء طريق آخر غير المسيح فيكون لصا وسارقا .
" أنا سكت فبليت عظامى
من صراخى طول النهار ....
أظهرت خطيئتى ، ولم أكتم اثمى .
قلت أعترف للرب بإثمى .
وأنت صفحت لى عن نفاقات قلبى " [ 3 – 6 ] .
يروى لنا داود النبى عن خبرته ، كيف حاول أن يخفى خطيته ، وكيف صمت عدة شهور ، ربما حوالى السنتين بعد سقوطه مع بتشبع زوجة أوريا الحثى . فقد ولد الطفل الذى كان ثمرة الخطية قبل زيارة ناثان له ( 2 صم 11 : 27 ؛ 12 : 14 ) . كان مدركا لخطيته ، لكنه لم ينهض طالبا المغفرة ، ولم يكن له سلام أو راحة ، فقد بدأت عظامه تشيخ وتبلى ، واكتشف أنه يلزمه أن يتوب طالبا الصفح عن خطاياه والأعتراف فى حضرة ذاك الذى يرى كل شىء ولا يخفى عليه شىء ما .
كثيرا ما يخطر بفكر الإنسان أن يؤجل اعترافه حتى يتحسن حاله ، لكن التأجيل فى الواقع هو سكوت خارجى عن الخطأ ، وتخدير للنفس لترك الخطية تملك فى الأعماق مدة أطول فى الظلمة حتى تتمكن بالأكثر على استلام مركز قيادة الحياة الداخلية ، أما ثمر ذلك فهو اهتزاز هيكل الإنسان الداخلى .
إذ صمت ولم يعترف مقدما تبريرات لنفسه تحولت حياته إلى برية قاحلة لا تتمتع بمياة النعمة الإلهية ، فأنبتت شوكا وحسكا كثمر طبيعى للخطية .
" لأن يدك ثقلت على بالنهار والليل .
رجعت إلى الشقاء عندما انغرست الأشواك قى " [ 4 ]
فى النص العبرى جاء الجزء الأخير : " تحولت رطوبتى إلى يبوسة القيظ "
الفرح الإلهى
" افرحوا أيها الصديقون بالرب
وابتهجوا وافتخروا يا جميع مستقيمى القلوب " [ 11 ]
إن كان الفم هو نصيب الأشرار ، فإن الفرح المضاعف هو نصيب الصديقين ، مستقيمى القلب أما سر الفرح فهو " الرب " . إنهم يفرحون بالرب كغافر للخطايا ، كملجأ لهم ، كقائد حياتهم ، وكمصدر مجدهم .
فرحهم هو بالرب لا بالغنى الزمنى والأمور الأرضية .
بدأ المزمور بتطويب من غفرت آثامهم وانتهى بالبهجة بالرب وليس بالغنى أو بالخلاص من الألم . بغفران خطايانا تصير قلوبنا مخلصة وأمينة لله ويعلن الرب ملكوته المفرح فيه .
+ + +