المزمور الرابع والعشرون
ملك المجد يدخل مقدسه
فى هذا المزمور إذ يرى المؤمن الله وقد خلق المسكونة وكل ما فيها لأجله يتطلع إلى موكب ملك المجد الصاعد لأجله إلى مقدسه السماوى . تذوب نفس المؤمن حبا ويلتهب قلبه بنار علوية مشتاقا أن ينضم إلى هذا الموكب الفريد لكى يعبر خلال أبواب السماء المفتوحة مع مخلصه إلى حضن الآب .
إنه مزمور الحب المجيد ، بالحب خلق الله كل شىء لأجل الإنسان ، وبه يهبه التقديس لينضم إلى موكب القدوس ، وبه يصعد بالإنسان إلى السماء المفتوحة بغلبة الصليب ! بمعنى آخر يرى المؤمن الحق متعته وتهليل نفسه فى الله بكونه الخالق القدوس واهب الغلبة .
خالق الكل
" للرب الأرض وملؤها ،
المسكونة وكل الساكنين فيها .
على البحار أسسها ،
وعلى الأنهار ثبتها " [ 1 ، 2 ] .
تتحدث الآيتان عن قدرة الرب فى خلق المسكونة بكونه الخالق والملك والديان . ويعتبر الخلق فى العهد القديم هو أساس سيادة الله على المسكونة كلها أى سيادة جامعية .
يطالب الله – الذى به كان كل شىء – بحقه فى الخليقة كلها ، لا ليسيطر عليها ، وإنما ليضم الكل إليه ويجدد خلقتهم فيملك بالحب على كل المسكونة .
لقد جاء يوم تتويجه بالصليب ، ليأخذ الأمم ميراثا له ، وأقاصى الأرض ملكا ( مز 2 ) .
الكنيسة مؤسسة على مياة المعمودية : " لأنه على البحار أسسها ، وعلى الأنهار ثبتها " . فى بداية الخليقة كان روح الله يرف على وجه المياة ليخلق ويبدع من أجل محبوبه الإنسان ، ليتمتع بالأرض وكل إمكانياتها . وفى العهد الجديد يؤسس الرب كنيسته كخليقة جديدة تقوم على بحار المعمودية التى ضمت الأرض الجديدة من كل العالم .
" من يصعد إلى جبل الرب ؟ " [ 3 ]
ترفع الكنيسة كما على الجبل ( السيد المسيح ) ، السماوى ، البار ، بكونها الجسد المقدس للقدوس .
الحياة الكنسية هى حالة " صعود " مستمرة ، لا تعرف التوقف ولا الإنحدار . مع كل يوم ينعم المؤمن بخبرة شركة مع السيد المسيح الجبل القدوس ، حيث نرتفع بالروح القدوس فيه وننعم بمرتفعات المجد .
التمتع بالحياة الكنسية الإنجيلية هى نعمة إلهية لا فضل لنا فيها ، والثبوت فيها والنمو الدائم هما من عمل روح الله الساكن فيها ، لذا يقول المرتل : " من يقوم فى موضع قدسه ؟ " من ذا الذى يقدر أن يبقى هناك ؟
يعجز الناموس أن يثبتنا فى الشركة مع الله أو حتى الأقتراب منه ، لكن نعمة الله الغنية تؤهلنا للوجود فى الحضرة الإلهية .
روح الله القدوس الذى يحملنا إلى مياة المعمودية لننال البنوة لله ويقدس أعضاءنا بالمسحة المقدسة ، يهبنا دموع التوبة غسلا دائما لخطايانا وتطهيرا لأعماقنا ، وهو بعينه يهبنا خلال سر الأفخارستيا الثبوت فى المسيح بتناولنا جسده ودمه المبذولين عنا .
يلزم التعبير عن قداسة الكنيسة بالأمال بجانب المشاعر الداخلية والإرادة . لذا يقول المرتل : " الطاهر اليدين ( الأعمال ) ، النقى بقلبه " [ 4 ] . إنها تمس علاقتنا بالله وبإخوتنا كما بأنفسنا : " الذى لم يأخذ نفسه باطلا ، ولم يحلف لقريبه بغش " [ 4 ] .
الآن ما هو ثمر هذه الحياة الكنسية المقدسة ؟
" هذا ينال بركة من الرب ،
ورحمة من الله مخلصه .
هذا جيل الذين يطلبون الرب ،
ويبتغون وجه إله يعقوب " [ 5 ، 6 ] .
المؤمنون الذين يسلكون فى حياة مقدسة يصعدون إلى جبل الرب ويثبتون فى موضع قدسه ، يبدأون بالروح ولا يكملون بالجسد بل يلتهبون بالروح وينمون .
إنهم " ينالون بركة من الرب " ، فهم لا يصعدون لكى يعطوا بل ينالوا ، إن قدموا قرابين إنما هى من عند الرب ، مما أعطاهم ... لكنهم ينالون السيد المسيح نفسه ، برهم وفرحهم وشبع نفوسهم ومجدهم الأبدى .
كلى النصرة
بعدما قدم المرتل الله بكونه الملك الخالق [ 1 ، 2 ] والملك القدوس [ 3 – 6 ] يقدمه الملك المجيد الغالب ، الذى تنفتح أو ترتفع أمامه الأبواب الدهرية [ 7 – 10 ] .
" ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم ،
وارتفعى أيتها الأبواب الدهرية
ويدخل ملك المجد " [ 7 ]
يبدو أن داود النبى وقد رأى إصعاد التابوت إلى جبل صهيون تطلع بعين النبوة إلى الرب الذى صار إنسانا يصعد إلى سمواته ، صهيون الأبدية ، فاستخدم لغة عسكرية ليرحب بالرب فى نصرته .
يقدم لنا سفر الرؤيا فى أكثر من موضع تصويرا رائعا للمخلص الغالب واهب النصرة لشعبه :
" فنظرت وإذا فرس أبيض ، والجالس عليه معه قوس ، وقد أعطى إكليلا ، وخرج غالبا ولكى يغلب " رؤ 6 : 2 .
" ثم رأيت السماء مفتوحة ، وإذا فرس أبيض والجالس عليه يدعى أمينا وصادقا ، وبالعدل يحكم ويحارب ، وعيناه كلهيب نار ، وعلى رأسه تيجان كثيرة ، وله اسم مكتوب ليس أحد يعرفه إلا هو ... والأجناد الذين فى السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض ونقيا " رؤ 19 : 11 – 14 .
لقد تجسد كلمة الله لكى يدخل إلى عالمنا كمحارب ، يحارب بإسمنا ولحسابنا ، وفى كل معاركه صار يغلب . فى معركة الصليب شهر بالعدو وحطم سلطانه ، وأعلنت تمام نصرته بقيامته وصعوده إلى السماء ، حيث انطلق ملك المجد يحملنا فيه إلى سمواته .
وبصعود السيد المسيح انفتحت الأبواب السماوية أمام المؤمنين ، لأن رأسهم السماوى قد صعد ، وحيث يوجد الرأس يكون الجسد أيضا .
" ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم .
وارتفعى أيتها الأبواب الدهرية .
ويدخل ملك المجد " [ 9 ] .
لا يمكن لأبواب الهيكل أن تسمى " الأبواب الدهرية " ، لذا يلزمنا أن نبحث عن مفهوم أسمى من مجرد إصعاد تابوت العهد إلى صهيون . فإن لغة النبى تسمو إلى ما هو أعظم مما نراه هنا على الأرض . لقد عبر بفكره إلى الأمور التى قدم تابوت العهد والخيمة والهيكل ظلالا لها ، إذ كانت هذه رموزا للسيد المسيح والسماء . إصعاد التابوت إلى جبل صهيون ليس إلا ظلا باهتا لصعود السيد المسيح ملك المجد إلى حيث يستقبل الذين تفتح لهم السموات أبوابها الدهرية .
" من هو هذا ملك المجد ؟
رب القوات ( الصباؤوت ) هذا هو ملك المجد " [ 10 ]
هذا الحوار الرائع الذى دار فى المزمور يكشف أنه لا يستطيع أحد أن يعبر الأبواب الدهرية ، ويدخل المقادس السماوية ، إلا الرب القوى الجبار ، رب الجنود أو القوات ، ملك المجد . له وحده تفتح أبواب المدينة السماوية ، الأبواب الدهرية ، أبواب الهيكل التى لم تصنه بأيد بشرية . إنه يهوه المخلص ، القدير ، رب الأرباب وملك الملوك ( رؤ 1 : 8 ؛ 19 : 16 ) ، القادر فى الحروب ، رئيس خلاصنا الذى لا يقهر .
" رب الصباؤؤت " لقب مجيد خص به الرب مرتين فى العهد الجديد ( رو 9 : 29 ، يع 5 : 4 ) .
+ + +
المزمور الخامس والعشرون
الرب معلمنا
يمكن تصنيفه مع مزامير الحكمة وأيضا مع المراثى الشخصية ، خصوصا حين يكون الإنسان حزينا بسبب شعوره الشخصى بالعزلة والأضطهاد .
يعتبر هذا المزمور مثالا طيبا لكيفية الصلاة لله فى تضرعات يومية ، منه نتعلم :
- ماهية الصلاة [ 1 ، 15 ] ، رفع القلب والعينين إلى الله .
- ما الذى ينبغى أن نصلى لأجله : طلب غفران الخطية [ 6 ، 7 ، 18 ] ، توجيهنا نحو طريق الألتزام [ 4 ، 5 ] ، طلب عطف الله [ 16 ] ، الخلاص من اتعابنا [ 17 ، 18 ] ، وحفظنا من أعدائنا [ 20 ، 21 ] ، وخلاص كنيسة الله [ 22 ] .
- كيفية تضرعنا لله فى الصلاة : ثقتنا فى الله [ 2 ، 3 ، 5 ، 20 ، 28 ] ، مرارتنا وظلم أعدائنا لنا [ 17 ، 19 ] ، إخلاصنا [ 21 ] .
- ما هى المواعيد الثمينة المقدمة لنا لتشجيعنا على الصلاة ، لإرشادنا وتوجيهنا [ 8 ، 9 ، 12 ] ، ومنافع العهد مع الله [ 10 ] وبهجة الشركة معه [ 13 ، 14 ] .
" إليك يارب أرفع نفسى " [ 1 ]
يعرف داود الصلاة بأنها رفع نفسه إلى الرب ، فقد اعتاد أن يرفع نفسه وقلبه إلى الله مع رفع يديه وعينيه ، تشترك النفس مع الجسد ، والقلب مع الفكر ...
الصلاة هى رحلة صعود كما على سلم يعقوب ، تاركين وراءنا كل الهموم والمتاعب لتحلق النفس على قمة السلم وتتمتع بالحضن الإلهى .
بالصلاة يختبر المؤمن فى كل يوم أنه غريب على الأرض ، يعيش تحت الآلام ، محاط بالأعداء ، لكنه متلل بالروح ، سعيد بعربون السماء ، ينعم بخبرات جديدة فى شركته مع الله
الصلاة هى رفع العقل إلى الله .
" يا إلهى عليك توكلت " [ 2 ]
استخدم لفظ " اتكال " فى بداية المزمور ، لكن نفس الإتجاه أو الروح عبر كل المزمور عند حديثه عن الله [ 5 ، 8 – 10 ، 14 الخ ... ] وبتأكيده انتظاره الرب [ 3 ، 5 ، 21 ] . فالأنتظار معناه قبول توقيت الرب وبالتالى حكمته .
كلما كثرت متاعبنا تزداد ثقتنا فى الله ، إذ يجب أن تدفعنا المخاطر بعيدا عن ذواتنا ، فنسعى طالبين عون الله ، يشهد ضمير داود له بأنه لا يتكل على ذاته ولا على أى مخلوق بل على إلهه . فلا يتزعزع ولا يخزى بهذا الأتكال .
" جميع الذين ينتظرونك لا يخزون ،
ليخز الذين يصنعون الإثم باطلا " [ 2 ، 3 ]
ليست الضيقات هى التى تجلب الخزى والعار بل صنع الإثم .
كان داود فى مرارة بسبب اضطهاد الأعداء له لكنه كان فى مجد ، لأنه يتكىء على صدر الله مخلصه ، فيحول الضيق إلى خبرة شركة مع الله .
" اظهر لى يارب طرقك ، وعلمنى سبلك ،
أهدنى إلى عدلك وعلمنى .
لأنك أنت هو الله مخلصى ،
وإياك انتظرت النهار كله " [ 4 ، 5 ] .
يصلى المرتل إلى الله فى جدية لكى يظهر له الطريق ويعلمه ويدربه بروح الحب الأبوى كمخلص ، أما من جانبه فهو ينتظر كل النهار ليتعرف على سبل الله ويسلك فيها بروح الطاعة ، يدعوه المرتل معلمه أو مدربه الرحوم الأبدى الذى يدخل به إلى سبله المقدسة .
" خطايا شبابى وجهالاتى لا تذكر ،
كمثل رحمتك أذكرنى أنت من أجل صلاحك يارب ،
لأنه صالحا ومستقيما هو الرب .
لذلك يصنع ناموسا للذين يخطئون فى الطريق " [ 7 ، 8 ]
ما كان يمكن لداود النبى أن يعترف بخطاياه وجهالاته ، خاصة التى ارتكبها فى أيام شبابه لو لم يكشف له الرب عن رأفاته ومراحمه الأزلية . حب الله وأبوته الحانية هما سندنا فى الأعتراف بخطايانا .
+ على الصليب تعانق الحب الإلهى مع العدل ، وانكشفت رحمة الله التى لا تنفصل قط عن عدالته ، لذا يقول المرتل :
" .... ، جميع طرق الرب رحمة وحق ،
للذين يبتغون عهده وشهادته " [ 10 ]
طرق الرب رحمة وحق لمؤمنيه الحقيقيين الذين يطلبون عهده ليحفظوه ، ويكونوا أمناء فى ارتباطهم به ، ليصيروا بالحق ملكا له .
+ كان داود النبى جادا جدا فى طلبه أن يخلصه الرب من ضيقاته ... لكنه وسط آلامه لم ينس آلام الجماعة ككل . صلى لأجل نفسه وها هو يطلب من أجل الجماعة لكى ينقذها ، إسرائيل الجديد ، الذى ليس هو بدولة إسرائل بل كنيسة العهد الجديد .
" يا الله أنقذ إسرائيل من جميع شدائده " [ 22 ]
خلص شعبك ، لا من الضيقات التى تحاصرهم من الخارج ، بل أيضا ومن تلك التى يعانون منها فى الداخل ، لأنك أنت يا الله قد أعددت شعبك لينعموا برؤيتك .
+ + +