المزمور الثامن والعشرون
مسيحنا فى الجب
مزمور مسيانى
حينما عانى النبى داود من الألم ، وشعر أنه منحدر إلى الحفرة ( الجب ) ، رأى بروح النبوة السيد المسيح ، مخلصنا ، داخلا إلى الجحيم ليحطم أبوابه ، ويفتدى منه مؤمنى العهد القديم الذين رقدوا على الرجاء .
تحوى هذه المرثاة صرخة صادرة من عمق الضغطة ، تعكس خطرا هائلا يلحق بداود يقترب به من الموت ، وهى تمثل صلاة من أجل دينونة الأعداء ، وتسبيحا من أجل الخلاص المرتقب ، وشفاعة من أجل جميع شعب الله .
يمثل هذا المزمور إيفاء بنذر داود الذى حولت كثرة أحزانه إلى " مرتل إسرائيل الحلو " فى وسط الألم ينذر أن يقدم تسبحة مفرحة للرب كذبيحة تسبيح ، ويفى بالنذر قبلما تتحقق استجابة صلواته .
ضيقات داود حولته إلى مرتل عذب ، يعرف – بروح الثقة – أن يلجأ إلى الله بصرخات قلبية فعالة ومقبولة ، يكره الشر ويخشاه ، يتسع قلبه لإدراك خلاص الله له ولكل شعبه .
" إليك يارب صرخت ، إلهى لا تصمت عنى ، لئلا تسكت عنى ، فأشابه الهابطين فى الجب " [ 1 ] .
ما معنى صمت الله ؟
1 – هذا يعنى أن الله لا يعود يصمت ، وإنما يتكلم لأجل فرح عبده ، ولإرباك الأعداء الأشرار . إنها صلاة للأستماع ، أى كى يستمع الله لنا ويستجيب !
2 – كما تعنى أيضا أنه بصمت الله نفتقد كلمته ، حياتنا ، الذى خلق المسكونة كلها لأجلنا ، وخلصنا بصليبه .
3 – الله لا ينفصل قط عن كلمته ، أما بالنسبة لغير المؤمن فيسوع ليس بكلمة الله ... وكأنه بعدم إيمانه يحرم نفسه من الصوت الإلهى ويحسب الله بالنسبة له صامتا !
4 – الله – فى حبه – دائم الحديث مع الإنسان محبوبه ، فالإنسان الروحى يسمع الصوت ويستجيب ، أما الجسدانى فيظنه صامتا . لقد تحدث الله ، فسمعه الطفل صموئيل ، أما عالى معلمه ، الكاهن المختبر فلم يستطع أن يسمعه . المؤمن صاحب الأذنين المختونتين يسمع كلمة الله موجهة إليه شخصيا طول النهار ، أما الآخرون فيحسبون الله صامتا لا يستجيب لصلاتهم ولا لتضرعاتهم .
5 – يرى القديس أغسطينوس فى كلمات المرتل أنها كلمات السيد المسيح حينما سمر على الصليب ، إذ ظن غير المؤمنين أن الله قد تركه وأنه ينحدر فى الجب أبديا .
6 – إذ كان المرتل يصلى لأجل تقدمه الروحى وبنيان مملكة الله داخل نفسه ، آمن بأنه ما لم ينل استجابة لصلاته يحسب ميتا ، منحدرا فى أعماق الجحيم ( الحفرة ) . لقد وثق فى قوة الله القاهرة للموت .
فى اختصار عندما يبدو كأن الله قد سد أذنيه عن أن يسمع لنا ، أو صمت ولم يستجب لصلواتنا ، يلزمنا ألا نكف عن المثابرة فى الصلاة حتى ننعم بحقنا فى الأستجابة ، أى حق إصعادنا كما من الجحيم للتمتع بقوة الحياة المقامة . صمت الله هو موت لنا ، وحديثه معنا هو متعة بالحياة الجديدة المقامة فى كلمة الله القائم من الأموات !
" استمع يارب صوت تضرعى ، إذ ابتهل إليك ، وإذ أرفع يدى إلى هيكل قدسك " [ 2 ]
المرتل الذى يبتهل إلى الله طالبا منه أن يتحدث معه شخصيا ولا يسكت عنه ، يجد خلاصه فى الله الساكن وسط شعبه ، لهذا يرفع يديه نحو هيكل الله المقدس .
حقا لم يكن الهيكل قد بنى بعد ! لكنه كان يعنى بهيكل قدسه التابوت وكرسى الرحمة كعرش الله حيث كان يسكن بين الكاروبين ، ومن هناك اعتاد الله أن يخاطب شعبه .
جاء فى خر 25 : 22 : " وأنا اجتمع بك هناك ، واتكلم معك من على الغطاء ، من بين الكاروبين اللذين على تابوت الشهادة " ، يشير كرسى الرحمة إلى السيد المسيح ، كلمة الله ، الذى يعلن عن الآب ، والكفارة ( يو 1 : 1 ؛ 14 : 9 ؛ رو 3 : 25 ؛ يو 2 : 2 ) . الآن كما فى الصلاة هكذا بالإيمان نتطلع إلى السيد المسيح ، هكذا كان أتقياء العهد القديم يتطلعون بعيونهم الطبيعية نحو كرسى الرحمة .
" لا تجذب نفسى مع الخطاة ، ولا تهلكنى مع فاعلى الإثم ، المتكلمين بالسلام مع أصحابهم ، والشرور فى قلوبهم " [ 3 ]
يطلب المرتل من الله ألا يحصيه مع الأشرار الذئاب والحيات المخادعين ، المنافقين ، المحتالين والمرائين . فإن الله بكونه الراعى الصالح الحقيقى يعرف أن المرتل هو حمل وليس ذئبا فى ثوب حمل .
المرتل الحقيقى لهذا المزمور هو ربنا يسوع المسيح الذى أحصى مع الأثمة ( إش 53 : 12 ) ، وقد حمل خطايا العالم كله ( 1 يو 2 : 2 ) ، ودخل بسببنا إلى الجحيم ، لكن نصيبه ليس مع الأشرار ، لأنه لم يصنع شرا ولا وجد فى فمه إثم . نزل مع الأشرار لكى يفصل المؤمنين الحقيقيين عن الأشرار غير المؤمنين ، فيحمل مؤمنيه كغنائم على كتفيه ، ويصعد بهم من الجحيم إلى حضن الآب يشاركونه أمجاده الأبدية .
إن كان مسيحنا حل بين الخطاة ، ولم يشاركهم شرهم ، بل قدم حياته مبذولة لكى يحملهم من الشر إلى الحياة المقدسة ، هكذا يليق بنا نحن أعضاء جسده ألا نحتقر الخطاة بل الخطية ، نعتزل الشر ذاته ، فنعيش فى العالم ولكن كمن فى السماء يحملنا روح الله القدوس إلى هيكله مقدسا حياتنا ، حتى لا يكون مصيرنا مع الأشرار .
" إعطهم كحسب أعمالهم ، ومثل خبث صنائعهم ، واعطهم نظير أعمال أيديهم ، جازهم كأفعالهم " [ 4 ] .
ليست هذه لغة انتقام وألم ، ولا هى باللغة التى تتعارض مع الصلاة من أجل أعدائنا ، وإنما هى نبوة خاصة عن هلاك المهلكين . يعرف المرتل أن البشر يحصدون حتما ما يزرعونه وليس شيئا آخر .
" .... مبارك الرب الإله ، لأنه سمع صوت تضرعى " [ 6 ]
إذ قدم داود النبى صلاة قلبية روحية أدرك أن الخلاص أو ما هو أعظم ( الخلاص الأبدى ) ليس ببعيد عنه . لقد اقتنع أن الرب سمع له ولم يسكت عنه ، لذلك صاغ تسبحة شكر لله . فبإيمان صلى [ 1 – 2 ] ، وبذات الإيمان يقدم شكرا ، لأن من يصلى بإيمان يفرح فى الرجاء .
" بإرادتى أعترف له ، الرب عز لشعبه ، وهو موآزر خلاص مسيحه . خلص شعبك ، وبارك ميراثك . أرعهم وارفعهم ( أحملهم ) إلى الأبد " [ 8 – 9 ] .
إنه تشفع وحب .
يعمم المرتل خبرته ، مطبقا إياها على شعب الله الذى يحميه يهوه . إنه يعتقد أيضا بأن ما هو لنفع الملك بالتأكيد يمس الشعب كله . بالتأكيد ما هو لنفع عضو أو لخسارته له فاعليته على الجسد كله .
يقول داود " شعبك " ، ناسبا إياهم لله وليس لنفسه . إنهم نصيب الرب ، والرب قوتهم وخلاصهم .
+ + +