تأسيس كنيسة أنطاكية السريانية:
أول من فتح أنطاكية حاضرة المشرق لأجل التبشير بالسيد المسيح هو برنابا العبراني القبرصي، فقد باع جميع أملاكه الوافرة ووزّع أثمانها، إلتقى برنابا مع بولس الإناء المختار فبَشّر في سلوقية وقبرص وأيطاليا واجتاز برومية وأقام في مديولان سبع سنوات وابتنى فيها كنيسة ثم عاد إلى قبرص فثار عليه اليهود ورجموه في السنة 62 م.
ما عدا برنابا فقد بَشّر في أنطاكية وضواحيها يهوذا برشابا ورفيقه شيلا المذكوران آنفاً ثمّ لوقا الطبيب الأنجيلي تلميذ بولس الرسول.
في السنة 38م برح بطرس بلاد فلسطين ومرّ بفونيقي ومكث فيها نحو سنتين يبثّ فيها البشارة حتّى بلغ أنطاكية، ونَصّر الكثيرين من أهاليها، فحنق عليه ثاوفيلس الوالي وألقاه في السجن. ثم أمر أن يحلق شعر رأسه ويُبقى فيه شكل أكليل مستديرة علامة للإستهزاء، وظل بطرس سبع سنوات في انطاكية يدبّر الكنيسة، وأسَّس فيها الكرسي الأسقفي الذي شملت سلطته البيعية جميع كنائس الشرق، ثم أنطلق من أنطاكية إلى رومية نحو سنة 45م، وبَشَّر في طريقة اليهود في البنطس وغلاطية واسيا.
ونُصب بطرس خلفاً له في أنطاكية أوديوس فساس جميع البلاد الشرقية كما أستنتج الآباء مما قرّره الرسل في المجمع الأرشليمي يوم بعثوا يهوذا برشابا وشيلا صحبة بولس وبرنابا إلى أنطاكية، إذ صرَّحوا قائلين:"من الرسل والكهنة والأخوة إلى الأخوة الذين من الأمم في لأنطاكية وسوريا وكيليكية، السلام..."[1] فقالوا إنَّ سلطة الكنسية الأنطاكية شملت منذ نشأتها جميع بلاد سورية وكيليكية حتى بلغت الأقطار الهندية. تأسيس المدارس السريانية:-
أدرك السريان المسيحيين ألذين عاشوا في الحقبة الأولى أنّ للحياة المسيحية الصحيحة دعامتين متتاليتين راسختين لا بدّ منها لترتكز عليها فتبلغ الغاية القصوى وهما العلم والفضيلة، فأنشأوا المدارس والأديار حباً لتعزيزهما وتوطيدهما وحرّصوا الخاصّة والعامّة على اقتباسهما. وقد شاهدوا الرسل وتلامذتهم من بعدهم لا يكتفون بإذاعة الكرازة الخلاصية على مسامع الأهلين بل يبذلون كل ما منحهم الله من قوى ليثقّفوا الشعوب ويهذّبوها ويلقونهم أصول الدين المسيحي، ويكونوا لهم بمثابة النبراس على النمارة ليضىء لكلّ من في الكنيسة. ولم يحصروا الهمّ بتعليم الكتاب المقدّس فحسب بل تخطّوه مع تطوّر الزمان إلى دراسة كل ما له علاقة بالايمان من مسائل المنطق والقضايا الفلسفية الحقّة.
إن أول مدرسة مسيحيّة قد تأسّست في أنطاكية مركز الكرسي الرسمي وامتازت بتدريس الكتاب المقدّس وشرحه لغوياً حرفياً دينياً روحياً، وقد قضى هذا الشرح غير مرّة إلى الأنحراف عن الطريق المستقيم وارتكاب الشطط والغلط وإحداث البدع والشذوذ، وأشتهرت مدرسة أنطاكية في الحقبة ألثانية من القرن الثالث شهرة واسعة.
أشتهرت أيضاً مدرسة الرُها بعد مدرسة أنطاكية، فأنجبت كتبة أعلاماً أنشأوا التصانيف في السريانية الفصحى بدءاً من ططيان وبرديصان ووافا الفيلسوف وأسوانا وأوسابيون الحمصي (+359) الذي درس أولاً في الرُها ثمّ أنتقل إلى أنطاكية، ثمّ أشتهر ذلك الملفان ماري أفرام السرياني.
وحذت حدياب والندائن حذو الرُها فأنشأت المدارس كذلك بجوار الكنائس وأشهر تلك المدارس وأقدمها مدرسة مار ماري في دير قنّى، فإنّها أنجبت تلامذة كثيرين أنتشروا في أصقاع البلاد وبشّروا بالايمان المسيحي.
تأسيس ألرهبنة السريانية:-
نشأت الرهبنة بنشأة ألكنيسة المسيحية إذ أخذ المؤمنون على ما أثبته الكتاب يبيعون ضياعهم وبيوتهم ويأتون بأثمان المبيعات ويلقونها عند أقدام الرسل، فزهد عدد غفير من المسيحيين على أمثال الرسل وتلاميذتهم في الحطام الدنيوي وألجاه ألعالمي وأللذائذ ألزائلة أنقطعوا إلى الأديرة والصوامع وألقفار يقضون حياتهم بالأصوام والأسهار وألصلوات[2] وسائر الأعمال النسكية حباً بالحياة السعيدة الخالدة. هكذا تفرّد رجال الله أبناء الكنيسة السريانية الممتازة وأسّسوا الأديرة والصوامع الوافرة في ضواحي أنطاكية ودمشق والرُها وحلب وقورش ولبنان، وفي بلاد ما بين الرافدين وآثور وبابل وبلاد العرب حتى أحصيت بالآلاف.
وجاء من الأخبار:-
· في مخطوط لندن 14602 أسماء 124 ديراً أحصى الكاتب أسماء رؤسائها.
· وِرد في أعمال البسوس الذي أستشهد عام 388 أنه أجتمع إلى ديره 6300راهباً.
· كتب يشوع دناح مطران البصرة أخبار 140 ديراً أسّسها السريان في بلاد فارس والعرب.
هذا ما عدا أديار طور عبدين وأطراف ماردين ولا سيّما أديار الرُها التي اشتملت في يوم عزّها[3] على 90000 راهباً. مع هذا كله فإن المشاحنات الدينية التي مزّقت شرقنا المسيحي وجدت في الأديرة أعشاشاً تجمّع فيها عدد كبير من أشدّ أربابها تعصّباً إذ كان كل فريق منهم يظنّ أن الحق بجانبه وإنّه هو المحافظ على عقائد الرسل وقوانين المجامع والتقاليد الكنسية دون غيره، ومهما يكن من أمر فلا يُنكّر أنّ تلك الأديرة أنجبت أساقفة عظماء وملافنة كباراً وشهداء قدّيسين ورهباناً صدّيقين زيّنوا الكنيسة بتصانيفهم وجهادهم وخلّدوا لهم فيها ذكرى طيبة على مدى الأجيال.
ألبطريرك أندراوس آخيجان (+1622- 1678) :-
قبل أن نتكلم عن هذا البطريك السرياني يجب علينا أن نعرف المناخ المسيحي في تلك الفترة ومن كان له الدور المهم في إقامته صخرة لكنيسة السريانية الكاثوليكية من خلال رسالة مسطّرة بتاريخ (+1683) عن تكوين الكنيسة السريانية الكاثوليكية وعن أنتخاب أندراوس بطريركها الأول، تقول:- " إن السريان يؤلفون أكثرية كبرى في مدينة حلب هذه، وكثيرون منهم تعلّموا أسرار ديانتنا... من مرسلي اوربا...، فاتحدوا مع الكنيسة. لكنّهم يقاسون أشدّ المحن، ولا يجرأون على الجهر بديانتهم الحقيقية، لذلك... إن فرانسوا بيكه، قنصل فرنسة بحلب في ذلك العهد... عزم مع الآباء المرسلين الذين كانوا هناك، أن يستحضروا من لبنان مطراناً اسمه اندراوس، كان قد ترك بيئته السريانية ولجأ إلى بطريرك الموارنة في لبنان، ليتبع معهم بملء الحرية مذهب الكنيسة الرومانيّة. هذا الرجل أقام على ممارسة الديانة بحرارة فائقة، حتّى إنّ بطريرك الموارنة رسمه كاهناً، وفيما بعد رقّاه إلى الدرجة الأسقفية"[4]. البطريرك... إسمه عبد الغال آخيجان. ولد في ماردين +1622، وأبواه سريان ارثدوكس، تكثلك على يد أحد المرسلين. وإذ خشي الأضطهاد من ذويه، لجأ إلى دير قنّوبين بلبنان عند البطريرك يوسف العاقوري، وعندما رأى البطريك أهليته واستعداده لتقبّل العلم والمعرفة المسيحيّة الكاثوليكية، أرسله إلى مدرسة المارونية في روما مع جملة الطلاّب الموارنة للتثقيف الكهنوتي سنة +1646.
تسلّم آخيجان مهمة السهر على الدارسين في المدرسة، كما درس اللآهوت الأدبي على يد كاهنٍ ماروني هو جورج عبد الله الحقلاني، وهناك تعرّف باسطفانوس الدويهي.
عند الأنتهاء من دروسه الكهنوتية، رجع إلى حلب، لكنه لم يقوَ على سكناها طويلاً لحنق والده عليه، (فلاذ بلبنان ثانياً لآجئاً إلى البطريرك الماروني يوحنّا الصفراوي، وللحال بادر هذا البطريرك فأنعم عليه بالدرجة الكهنوتية وتسمّى أندراوس)[5] في سنة 1651 [6]؛ بينما يذكر الخوارسقف أسحق أرملة أنَّ آخيجان نال الدرجة الكهنوتية على يد البطريك الماروني "يوسف العاقوري" وذلك في سنة 1648 [7] إن إقبال السريان على التكثلك في حلب كان على إكبيراً، وكان فرانسوا بيكه روح هذه الحركة الرسولية لسببين، الأول: أنَّه عقد صداقة متينة مع شمعون بطريرك الأرثدوكس لرعاية هؤلاء المتكثلكين الجدد. ثانياً: إقناع هذا البطريرك بإختيار كاهن سرياني كاثوليكي مطراناً على حلب. وأخيراً نجح بإيقاع الأختيار على أندراوس. فكتب القنصل وكتب المرسلون أيضاً إلى البطريرك الصفراوي، يعرضون له حالة الكنيسة السريانية الكاثوليكية وحاجتها، حينئذ كرّس البطريرك الماروني أندراوس حبراً في 29 حزيران 1656 (وأُرسل إلى حلب برفقة الخوري أسطفان الدويهي ألذي لازمه هناك خمس سنين، وتكثلك في وقته كثيراً من السريان اللأرثدوكس ، ولكنّهم واجهوا صعوبات مع هذا القنصل في حلب، كما وأستحصلوا السريان الأرثدوكس أمراً من الباب العالي يوَجّب تحت عقاب العصيان قبول المطران أندراوس راعياً شرعياً لحلب، فاضطهدوا هذا المطران وأتخذوا من المال سبيلاً سوياً أرغموا فيه أندراوس على الهرب ثانية إلى لبنان محتمياً عند البطريرك الماروني[8] في 15 أيار 1657 ). في عام 1659 في 28 من كانون الثاني رجع الجواب من روما بتثبيت انتخاب أندراوس لمطرانية السريان فكان هذا المرسوم البابوي من أكبر المشجّعات لأندراوس، ومن جرّاء ذلك انفصل عدد كبير من الأرثدكس عن طقسهم وأعتنقوا العقيدة الرومانية.
في تلك الأثناء انتقل إلى جوار الله شمعون بطريرك الكنيسة السريانية الأرثدوكسية في ماردين، فانقسم الرأي في أمر خلافته رأيين، انتصب لكل منهما حزب. عند ذلك قام السيد بارون، خلف بيكه في القنصليّة الفرنسية بحلب، بالسعي وبذل المال فنجح بفضل ما قامت به فرنسا دولته من مفاوضة رسمية حمّلت السلطان سنة 1662 على أن يصدر تأييداً للمطران أندراوس، فرماناً سلطانياً، لم يسبقه مثيل بفساحة صفحته وكثرة مادّته، ومعه فرماناً آخر إلى جميع الباشوات والوزراء والحكام يأمرهم بإخضاع الشعب السرياني إلى السيّد أندراوس، في كل بلد تظللها أسماء سلطته.
تسمّى البطريرك الجديد باسم أغناطيوس أندراوس[9] وأوفد إلى البابا أسكندر السابع ايرونيموس الكرملي ليلتمس له التثبيت، ولكن ذلك لم يتم إلاّ بعهد البابا أكليمنضوس التاسع ألذي أقرَّ الأنتخاب وأولاه الدرع الحبرية عام 1667، وفي عام 1678 استأثرت رحمة الله بأندراوس، بعد أن ملأ السنين الطوال بالجهاد والرسولية.
(من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني) متى 24:16[2] اليد المارونية في ارتداد الكنائس الشرقية (صفحة 166) .[4] اليد المارونية في ارتداد الكنائس الشرقية (صفحة 169) .[5] الكنائس المسيحيّة في لبنان (صفحة 31) .[6] تاريخ الكنيسة السريانية (صفحة 415) .[7] البطريرك جرجس ابن الحاج رزق الله من قرية بسبعل، رئاسته (1657- 1670) .[8] 9 منذ أن مات أغناطيوس الخامس من أنطاكية (1293- 1333) أخذ البطاركة السريان أضافة أسم أغناطيوس إلى أسم كل منهم، تذكاراً للقديس أغناطيوس النوراني بطريرك أنطاكية الأول (68- 107) .