نشأ الصوم بخطوطه الأصلية، التي ما زالت تميّزه حتّى أيامنا هذه، في القرن الرابع الميلادي تذكاراً لصوم المسيح في البرية.
أما في القرنين الثاني
والثالث، فكان يُكتفى بما يُدعى بالصوم " قبل الفصح"، وهو يمتدّ من يوم الجمعة العظيم وحتى أحد الفصح،
وقد كان يشير إلى غياب المسيح ما بين موته
وقيامته. وفي نهاية القرن الثالث، أصبح الصوم ستة أيام أثناء الأسبوع العظيم.
واستقرّ بصورته الراهنة في القرن السابع. فالمجمع المسكوني السادس
يتحدث عن سبعة أسابيع للصوم.
إلاّ أنّ الصوم لا ينحصر لدى المسيحيّين في الأسابيع السبعة السابقة لعيد الفصح، والمسمّاة صوم الأربعين.
ففي الكنيسة أصوام عديدة منها صوم السيدة
العذراء، الذي يسبق عيد الرقاد في شهر آب، ومدّته خمسة عشر يوماً، وصوم الرسل الذي يسبق عيد القديسين
بطرس وبولس في شهر حزيران، وصوم
الميلاد الذي يسبق عيد الميلاد. وتتراوح مدّة هذين الصومين الأخيرين من كنيسة إلى أخرى.
يمارَسُ الصوم عموماً بطريقة الإمساك عن الطعام، وكأنّ في هذا الإمساك قوة مُخلصة.
وكثيراً ما نسمع الوعّاظ يعلنون أن الصوم صحة. ربما يقولون هذا
ليحثّوا الناس على الصيام. فنحن لا نجد في الكتاب المقدس بعهديه نصّاً واحداً يبيّن أن الصوم وُضعَ طبابة للإنسان
أو للحصول على صحة أوفر. والكنيسة
لم تجعل الصوم دواءً للجسد. لقد قال النبي داود " كلّت ركبتاي من الصوم"
(مزمور 109 :24).
في أيّامنا، يحاول كثيرون أن لا يأخذوا فريضة الانقطاع عن الطعام على محمل الجد،
أو يسيئون فهم حقيقة غايته الروحية. فهو عند بعضهم امتناع عن
أطعمة معيّنة، وعند آخرين محافظة دقيقة على قواعد غذائيّة، من دون أن يرتبط هذا الامتناع في
الحالتين بالسعي وراء النموّ في الحياة الروحيّة. لذا، وجب
علينا التمييز بين الوسيلة والغاية. فوسيلة الإمساك عن الطعام تجعلنا في صراعٍ ضد الأهواء
وضدّ كلّ ميلٍ شرّير. وقد جرّد الإنجيل الصوم من فكرة إذلال
النفس ومعاقبة الذات، وأعطاه معنى آخر. فهو وسيلة لطرد الأرواح النجسة من النفس،
وجهاد روحي. فالصوم المسيحي لا يرتبط بتكفير ولا بقصاص، ولا
يُمارَسُ بتقطيب الحاجبين أو البكاء والنحيب، بل هو طريقة صلاة،
ووسيلة لاستدعاء الروح، وحنين إلى الفردوس، وانتظار لقيامة.
وإذا صُمنا جسدياً، فلترافقنا روحانية الصوم، ولنجعل منه زمن تغيير (وهو معنى التوبة في الإنجيل)
وفرصة لمراجعة الذات والمصالحة مع الله، وزمن
ترويض روحيّ واستنارة، وزمن سماع لصوت الله والإصغاء اليه. ليكن صومنا فترة جهاد ضد الخطيئة،
وليُذكّرنا بالأيام الأربعين التي قضاها يسوع في
البريّة، وجاهد في أثنائها ضد الشيطان المجرّب وغلبه.
كسر آدم الصوم في الفردوس عندما أكل من الثمار المحرّمة، فانكشفت لنا خطيئة
الانسان الأولى، والطرد من الفردوس والموت، أما المسيح، آدم الجديد،
فيبدأ بالصوم ويتغلب على الخطيئة ويحطّم الموت ويعيدنا إلى الفردوس.
فالاقتداء بالمسيح يجعل من صوم فرحاً وبهجةً. فرح مَن ينتظر العريس وبهجة
مَن يترقّب النور الأزلي والنهار الذي لا يغرب أبداً.