الجزء الأول
وحدة الحبِّ
في الخَلْقِ
وفي تاريخِ الخلاص
مشكلة تعبير
2. إن محبّة الله لنا هي أمرٌ أساسيٌّ لحياتِنا، وهي تطرح أسئلةَ مهمةَ حول من هو الله ومَنْ نحن. في إعتِبار هذا، نَجِدُ أنفسنا فوراً أمام مشكلة في التعبير. فاليوم، أَصْبَحَ تعبيرَ "حب" أحد أكثر التعابير المستخدمة والمُسَاءة الإستعمالِ كثيراً، فبه ارتبطت معاني مختلفةَ جداً. بالرغم من أنَّ هذه الرسالة ستعالج كيفية فَهْم وممارسةِ المحبِّة في الكتاب المقدّسِ وفي تقليدِ الكنيسةَ، لا نَستطيعُ ببساطة فَصْل هذا عنْ معنى الكلمةِ في الثقافاتِ المختلفةِ وفي الإستعمالِ المعاصرِ.
"eros" و"agape" - إختلاف ووحدة قبل كل شيء لنذكر الاستعمال الواسعِ لكلمة "حب": فهي يمكن أن تعني محبة الوطن، محبة مهنة معينة، محبة بين الأصدقاء، محبة العملِ، محبة بين الآباءِ والأطفالِ، محبة بين أفرادِ العائلة، محبة القريب ومحبة الله. وسط هذا التعدّدِ للمعاني، على أية حال، واحد منها يَبْرزُ بشكلٍ خاص: الحب بين الرجلِ والمرأةِ، حيث الجسد والروح يشتركان فيهِ دون انفصام ويُعطى للإنسان وعداً بالسعادة لا يُقاوم. فيهِ تتجلّى خلاصة الحبِّ؛ وبالمقارنة معهُ تَبْدو فوراً كُلّ أنواع الحب الأخرى باهتة. لذا يُطرح السُؤال: هل لكُلّ أشكالِ المحبة هذهِ أساس واحد، وهل المحبة، رغم تجلّياتها العديدة، هي في النهاية حقيقة واحدة، أَم أننا نَستعملُ نفس الكلمةِ للدلالة على حقائق مختلفةَ كلياً؟ 3. دعت اللغة اليُونانِيَّة القدِيمَةِ، الحبَّ الذي ينشأ بين الرجلِ والمرأةِ دون تفكيرٍ أو إرادةٍ مسبقين، بل يَفْرض نفسه بطريقةٍ ما على البشرِ، بالـ eros. لنُلاحظُ مباشرة بأنّ العهد القديمِ اليونانيِ يَستعملُ كلمةَ eros مرّتين فقط، بينما العهد الجديد لا يَستعملُها مطلقاً: فمن بين الكلماتِ اليونانيةِ الثلاث الدالّة على الحبِّ: philia, eros (حب الصداقة) و agape يُفضّلُ كُتّابَ العهد الجديدِ الأخيرة، والتي كانت نادرة الإستعمال عند اليونان. أما بالنسبة إلى التعبيرِ philia الدال على محبة الصداقةِ، فهو مُستعملُ بشكلٍ مُعمقِ في إنجيلِ القدّيسِ يوحنا للكلام عن العلاقةَ بين السيد المسيح وتلاميذه. إن الميل لتَفادي كلمةِ eros مع الرؤيةِ الجديدةِ للحبِّ المعبَّر عنه بكلمةِ agape، يُشير دون شك إلى أنّ النظرة الجديدِة والمُتميّزةِ حول الفَهْم المسيحيِ للحبِّ هي ذات اعتبار جوهري. إنَّ نقدَ المسيحيةِ الذي بَدأَ بعصر التنويرِ ونَما تدريجياً بشكلٍ جذري، رَأى في هذا العنصرِ الجديدِ أمراً سلبيّاً للغاية. فطبقاً لفريدريك نيتشه، قد قامت المسيحيةَ بتسميم الـ eros الذي من جهته، بينما لم يضمحل بالكامل، تَحوَّل بشكل تدريجي إلى رذيلة [1] بهذا كَانَ الفيلسوف الألماني يُعبّر عن وجهة نظر سائدة وهي المتسائلة: ألا تعمل الكنيسةُ، بكُلّ وصاياها وموانعها لتحويل الشيءِ الأثمنِ في الحياةِ إلى مرارةِ؟ ألا ترفع صافرةَ الإنذار فيما يتعلق بتلك البهجة التي نلناها هديةً من الخالقِ والتي تمنحنا سعادةً تجعلنا نتذوق منذ الآن شيئاً إلهياً؟
ـــــــــــــ
[1] راجع: Jenseits von Gut und B?se, IV, 168.
.4 لكن هَلْ هذه هي الحقيقة؟ هَلْ حطّمتْ المسيحية حقاً الـeros ًً؟ لنلقي نظرة على العالم ما قبل المسيحيّة. اليونانيون ـ مثل الثقافات الأخرى ـ قد إعتبروا الـ erosقبل كل شيء نوعاً مِنْ السكر، بهِ تُقَهْر العقلانية مِن قِبل "جنونٍ إلهيّ"، يخطف الإنسانَ بعيداً عن وجودِه المحدودِ وبهذه القوة الإلهية التي تقتحم حياته يتمكن من اختبار سعادة لا متناهية. كُلّ السُلُطات الأخرى في السماء وعلى الأرضِ تَبْدو إذاً ثانوية. يَقُولُ فيرجليوس في Bucolics "الحب ينتصر على كل شيء" ومن ثم يضيف: "دعنا نحن أيضاً نستسلم للحب" . في الأديانِ، وَجدَ هذا الموقفِ تعبيراً لهُ في طقوس الخصوبةِ، التي شكّلت الدعارةَ "المقدّسةَ" جزءاً منها تلك التي إزدهرتْ في العديد مِنْ المعابدِ .هكذا إحتُفِلَ بالـ erosكقوَّة إلهية، كتواصل مع العالم الإلهي.
عارضَ العهد القديمُ بِحزم هذا الشكل من التديُّن، الذي كان يُمثّلُ إغراءً قويّاً ضدّ الإيمانِ التوحيديِ، وحاربه كظاهرة تدهور في الدين. لَكنَّه بذلك لم يرفض أبداً eros الـ في حد ذاته؛ بل بالأحرى، قد أعلنَ الحرب على الجانب المشوّه والتدميريّ منه، لأن هذا التأليه المُزيَّف للـ eros يُعرّيه في الحقيقة من كرامتِه ويلغي منهُ معناه الإنساني. في الواقع إن المومسات في المعبدِ، اللواتي كان عليهنّ أن يمنحوا نشوة الإلوهة، لَمْ يكن يُعتبًرْن بشراً وأشخاصاً، بل كن يُستعملن كوسائل إثارة لإختبار "الجنون الإلهي": في الواقع هن لم يكنَّ إلاهات، بل أشخاصاً إنسانيينَ مُستغَلّين.اللاواعي و eros لهذا فإن الـ غير منضبط، لا يُعتبر إعتلاءاً في "النشوةِ" نحو الألوهة، بل سقوطاًو إهانة للإنسان. ومن ثمّ فإنه من الواضح بأن الـ eros يحتاج بالضَّرُورة لأَنْ يخضع للتأديب والتنقية فلا يكون مجرَّد خبرة لذةٍ عابرة، بل تذوق مُسبق لذروةِ الوجود، لتلك السعادةِ التي يشتَاقُ لها كل كياننا.
5. من خلال هذه النظرة العامّةِ والسريعةِ لمفهومِ eros الـفي الماضي والحاضر نستنتج بوضوح أمران: أولاً، هناك علاقة أكيدة بين الحبِّ وعالم الألوهة: يَعِدُ الحبُّ بالأبدية، بالخلود ـ حقيقة أعظم جداً ومختلفة كلياً عن وجودِنا اليوميِ. رغم ذلك رَأينَا أنَّ الطريقَ لإنْجاز هذا الهدفِ لا يقوم ببساطة على الإذْعان للغريزةِ. فالتنقية والنضجِ أمران ضروريان وهما يتطلّبان في بعض الأحيان سلوك طريقَ التخلّي أيضاً. هذا ليس رَفْضاً أَو "تسميماً" للـ eros، بل شفاءً له في سبيلِ عظمته الحقيقية.
هذا يرتكز قبل كل شيء على حقيقة الكائن البشري المؤلَّف مِن جسدٍ ونفس. فالإنسان يكون ذاته حقاً عندما يتحد جسده ونفسه بحميمية؛ يمكننا القول بأننا غلبنا التحدي المعروض مِن قِبل الـ eros عندما ينجح هذا الإتحاد. إذا ما أراد الإنسان أن يَكُونَ روحاً صافيةَ ورَفَض جسدهُ معتبراً إيّاهُ إرثاً حيوانياً فقط، يَفْقدُ عندها الروح والجسد كرامتَهما. من الناحية الأخرى، إن أنكرَ الروحَ وبالتـالي اعتبر المادة والجسـد بمثابتة الحقيقية الوحيدة، فهو يَفْقدُ عظمتَه على نفـس النمـط. كان الأبيقوري غاسـيندي (Gassendi) ينادي ديسكارت (Descartes) على سبيل المزاح "يا نفس!" وديسكارت كان يجيبه "يا جسد!" [3] رغم أنَّهُ لا الروح يحب بمفرده ولا الجسدُ: بل الإنسان، الشخص ،يحب كمخلوق واحد متكوّن من الجسد والنفس، فقط عندما يتحد هذان البعدان، يصير الإنسان ذاته بشكلٍ كامل. بهذا الشكل فقط، حبُّ ـ erosـ قادر على بُلُوغ عظمتِه الأصيلةِ. في الوقت الحاضر تُنتَقدُ كثيراً مسيحيَّة الماضي على أنها كانت ضدَّ الجسد؛ وفي الحقيقة تلك الميولِ قد وُجِدَت دائماً. رغم ذلك فإن إبراز أهمية الجسـد بحسب الطريقة المُعاصرة لهو أمرٌ خادعُ. فالـ erosبإنحداره لـ "الجنـسِ" لا غير، أَصْـبَحَ" سلعة ،"مجرّد شيء يُشتَرى ويُباع، بل بالأحرى، الإنسان نفسه قد أصبحَ سلعة. في الواقع هذا ليس الـ "نَعَمْ" السامي للجسد. بالعكس، فالإنسان صارَ الآن يَعتبرُ الجسد والجنس كالجزء المادي فقط من ذاتهِ، ذاك الجزء الذي يُستَعملَ ويُستَغلَّ عند الرغبة. ولا يَراه كمجال لممارسة حريتِه، بل شيئاً يُحاولُ أن يجعل منهُ، بحسب رغبته، مصدر متعةٍ غير مؤذية. في الحقيقة هنا نحن نتواجد أمامَ واقع يحطّ من كرامة الجسد الإنسانيِ، لأنه لم يدخل بشكل كاملٍ حيّزَ حُريتِنا الوجوديةِ؛ لم يعد يُشكّل التعبير الحيوي عن تكامل كياننا، لَكنَّه قد حُصِرَ في المجالِ البيولوجي لا غير. إن الإعلاء الظاهري للجسد يُمْكِنُ أَنْ يَتحوّلَ بسرعة إلى كراهية للبعد الجسديّ. على عكس ذلك قد اعتبر الإيمان المسيحي دائماً الإنسانَ كوحدة ـ ثنائية، فيها تتداخل النفس مع الجسد بشكل يمنح كلَّ بعدٍ منهما كرامةً جديدة. نعم فالـ erosيعمل على رفعنا "في النشوةِ" نحو الله، ليسير بنا لما هو أبعد من أنفسنا؛ لكن لهذا السبب بالذات يتطلّب منّا مسيرة ترويضٍ، تخلّي، تنقية وشفاء.
ــــــــــــ
[3] R. Descartes, Œuvres, ed. V. Cousin, vol. 12, Paris 1824, pp. 95ff
6. بشكل عمليّ، ماذا يتطلّب طريقُ الترويض والتنقيةِ هذا؟ كيف على الحبّ أن يُعاش كيما يُحقق بالكامل وعده الإنساني والإلهي؟ أول إشارة مهمة يُمْكِنُ أَنْ نَجِدَها في نشيد الأناشيد، أحد أسفار العهد القديمِ المشهورِ لدى الصوفيين. طبقاً للتفسيرِ السائد اليوم، كانت القصائد المحتواة في هذا الكتابِ أصلاً أغاني حبّ، ربما كانت تخص حفلة زفاف يهوديِ وتقَصدَ إعلاء شأن الحبِّ الزوجيِ. في هذا السياقِ من المفيد جداً مُلاحَظَة استعمال الكتابِ لكلمتين عبريتينِ مختلفتينِ للإشارة إلى "الحبِّ". أولاً هناك الكلمة "دوديم" وهي عبارة عن صيغة جمع تلمّح للحبّ الذي ما زالَ في طور بحث غير محدد. الكلمة الأخرى هي "أحابا" والتي ترجمتها النسخةَ اليونانيةَ للعهد القديمِ بلفظٍ مماثل "أغابيه" والتي، كما رَأينَا، أصبحت التعبيرَ المثاليَ لفكرةِ الكتاب المقدس عن الحبِّ. بعكس الحب غير المُحدّد، والمتّسم بالبحث، تُظهرُ هذه الكلمةِ تجربةَ الحبّ التي تَتضمّنُ إكتشافاً حقيقيّاً للآخر، وبهذا تتجاوز الصيغة الأنانيّة السائدة بوضوح في الكلمة الأولى. هكذا يُصبحُ الحبُّ اهتماماً بالآخر ولأجل الآخر. هو لا يبحث عن منفعتهِ الشخصية وعن الغَرَق في نشوة السعادةِ؛ بل يَطلب خيرَ المحبوبِ: يتحول إلى تخلّي وهو جاهزٌ، بل حتى راغبٌ في التضحيةِ.